سورة القمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (القمر)


        


يقول الحق جل جلاله: {اقتربت الساعةُ} قربت القيامة، قال القشيري: ومعنى قربها: أنّ ما بقي من الزمان إلى القيامة قليلٌ بالإضافة إلى ما مضى. اهـ. قال ابن عطية: وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف. اهـ. {وانشقَّ القمرُ} نصفين، وقرئ: و{قد انشقَّ القمر}، أي: اقتربت الساعة وقد حصل من آيات اقترابها أنَّ القمر قد انشقًَّ، كما تقول: أقبل الأميرُ، وقد جاء البشير بقدومه.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: انشق القمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فكانت أحداهما فوق الجبل، والأخرى أسفل من الجبل، فقال صلى الله عليه وسلم: «اشهدوا» قال ابن عباس: إنَّ المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن كنت صادقاً فشُق لنا القمر فلقتين، فقال: «إن فعلتُ؛ أتؤمنون؟» فقالوا: نعم، وكانت ليلة بدر، فسأل صلى الله عليه وسلم ربه؛ فانشق فرقتين، نصف على أبي قُبيس، ونصف على قُعَيْقِعان، وقيل: سألوا آية مجملة، فأراهم انشقاق القمر. قال ابن عطية: وعليه الجمهور، يعني عدم التعيين.
وفي صحيح مسلم: أنه انشق مرتين وصرح في شرح مرتين وصرح في شرح المواقف بأن انشقاقه متواتر. اهـ. وقيل: معناه: انشق، أي: ينشق يوم القيامة، وهو ضعيف، ولا يُقال: لو انشقَّ لما خفي على أهل الأقطار، ولو ظهر عندهم لنقل متواتراً؛ لأن الطباع جبلت على نشر العجائب، لأنه يجوز أن يحجبه اللّهُ عنهم بغيم أو غيره، مع أنه كان ليلاً، وجُلّ الناس نائمون، وأيضاً: عادة الله تعالى في معجزاته أنه لا يراها إلاَّ مَن ظهرت لأجله في الغالب.
تنبيه: قال القسطلاني في المواهب اللدنية: ما يذكره بعض القصَّاص أن القمر دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه، ليس له أصل، كما حكاه الزركشي عن شيخه العِماد ابن كثير. اهـ.
{وإِن يَرَوا} أي: أهل مكة {آيةً} تدل على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم {يُعرضوا} عن الإيمان {ويقولوا سِحْرٌ مستمر} محكم شديدٌ قويّ، من: المِرّة، وهي القوة، أو: دائم مطّرد. رُوي: أنه لما انشق؛ قالوا: هذا سحر ابن أبي كبشة؟ فسلوا السُّفار، فلما قَدِموا سألوهم، فقالوا: إنهم قد رأيته، فقالوا: قد استمر سحره في البلاد، فنزلت. قال البيضاوي: دلّ قوله: {مستمر} على أنهم رأوا قبله آيات أخرى مترادفة، ومعجزات سابقة. اهـ. أو: مستمر، ذاهب ومارٌّ، يزول ولا يبقى، من: مرّ الشيء واستمر: ذهب.
{وكذّبوا واتَّبعوا أهواءَهم} الباطلة، وما زيَّن لهم الشيطان من دفع الحق بعد ظهوره، حتى قالوا: سحرَ القمر، أو: سَحَرَ أعيننا، {وكلُّ أمرٍ} وعدهم الله به {مستقِرٌ} كائن في وقته، أو: كل أمر قُدِّرَ واقع لا محالة يستقر في وقته، أو: كل أمر من الخير والشر يقع بأهله من الثواب والعقاب، وقُرئ {مستقرٍ} بالجر، فيعطف على {الساعة}، أي: اقتربت الساعة وكل أمرٍ مستقر، يعني: أشراطها.
{ولقد جاءهم} أي: اهل مكة في القرآن؛ {من الأنباءِ} من أخبار القرون الماضية، وكيف أُهلكوا بالتكذيب {ما فيه مُزْدَجَرٌ} أي: ازدجار عن الكفر والعِناد، يقول: زجرته وازدجرته، أي: منعته، وأصله: ازتجر، افتعل، من الزجر، ولكن التاء إذا وقعت بعد زاي ساكنة أبدلت دالاً؛ لأن التاء حرف مهموس، والزاي حرف مجهور. فأبدل من التاء حرف مجهور، وهو الدال؛ ليناسب الميم.
{حكمة بالغةٌ} بدل من {ما}، أو: خبر، أي: هو حكمة بالغة؛ ناهية في الرشد والصواب، أو: بالغة من الله إليهم، قال القشيري: والحكمة البالغة: الصحيحة الظاهرة الواضحة لمَن فكّر فيها. اهـ. قال المحلي: وصفت بالبلاغة؛ لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان ما لا يبلغ غيرها. اهـ. {فما تُغنِ النُّذُر} شيئاً، حيث سبق القدر بكفرهم، وما نافية، أو استفهامية منصوبة ب {تُغن}، أي: فأيّ إغناء تُغني النُذر مع سابق القدر؟ والنُذر: جمع نذير، وهم الرسل، أو: المنذَر به، أو: مصدر بمعنى الإنذار، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدُّد الإغناء، واستمراره حسب تجدُّد مجيء الزواجر واستمرارها.
{فتولَّ عنهم} لعلمك بأنّ الإنذار لا يُغني فيهم شيئاً، واذكر {يومَ يدع الداع} وهو إسرافيل عليه السلام {إِلى شيءٍ نُّكُرٍ} أي: منكر فظيع، تُنكره النفوس، لعدم العهد بمثله، وهو هول القيامة. {خُشَّعاً أبصارُهم يخرجون} ف {خُشَعاً}: حال من فاعل {يخرجون}، أي: {يَخرجون من الأجداث} أذلة أبصارهم من شدة الهول؛ لأن ذلة الذليل وعزة العزيز يظهرن في أعينهما، ومَن قرأ: {خاشعاً} فوجهه: أنه أسند إلى ظاهر، فيجب تجريده كالفعل، وأما مَن قرأ بالجمع، فهو على لغة: أكلوني البراغيث، {كأنهم جراد منتشِرٌ} في الكثرة والتموُّج والتفرُّق في الأقطار. قال ابن عطية: في الحديث: أن مريم دعت للجراد؛ فقال: اللهم أعِشْها بغير رضاع، وتتابع بينها بغير شباع. اهـ.
ثم وصف خروجهم من القبور، فقال: {مهطِعين إِلى الداعِ} مسرعين مَادِّي أعناقهم إليه، أو ناظرين إليه، {يقول الكافرون} استئناف بياني، وقع جواباً عما نشأ من وصف اليوم بالأهوال، وأهله بسوء الحال، كأنّ قائلاً قال: فماذا يكون حينئذ؟ فقال: {يقول الكافرون هذا يوم عِسِرٌ} صعب شديد. وفي إسناد هذا القول إلى الكفار تلويح بأنّ المؤمنين ليسوا في تلك المرتبة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اقتربت ساعة الفتح لمَن جَدّ في السير، ولازم صحبةَ أهل القرب، قال القشيري: الساعة ساعتان: كبرى، وهي عامة، وصغرى، وهي خاصة بالنسبة إلى السالك إلى الله، برفع الأوصاف البشرية، وقطع العلائق الطبيعية.
قال: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن مات فقد قامت قيامته» راجعة إلى الساعة الصغرى. اهـ. أي: مَن مات عن رؤية نفسه؛ قامت قيامته بلقاء ربه وشهوده. وقوله تعالى: {وانشق القمر} أي: قمر الإيمان؛ فإنه إذا أشرقت عليه شمس العيان، لم يبقَ لنوره أثر، ليس الخبر كالعيان، وإن يَرَوا- أي: أهل الغفلة والحجاب- آيةً تدل على طلوع شمس العيان على العبد المخصوص، يُعرضوا منكرين، ويقولوا: {هذا سحر مستمر...} الآية، وكل أمر قدّره الحق- تعالى في الأزل، من أوقات الفتح أو غيره، مستقر، يستقر ويقع في وقته، لا يتقدّم ولا يتأخّر، فلا ينبغي للمريد أن يستعجل الفتح قبل إبانه، فربما عُوقب بحرمانه، ولقد جاءهم من الأخبار عن منكري أهل الخصوصية، وما لحق أهلَ الانتقاد من الهلاك أو الطرد والبُعد ما فيه مزدجر، كما فعل بابن البراء وأمثاله، حكمة من الله بالغة، وسنة ماضية، يقول: «من آذى لي وليّاً فقد آذن بالحرب» فما تُغن النُذر إذا سبق الخذلان، فتولّ أيها السالك عنهم، وعن خوضهم، واشتغل بالله عنهم؛ {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} واذكر الموت وما بعده، فإنه حينئذ يظهر عز الأولياء، وذل الأغبياء، يقولون: هذا يوم عسر على مَن طغى وتجبّر.


يقول الحق جلّ جلاله: {كذبت قبلهم} أي: قبل أهل مكة {قومُ نوح فكذَّبوا عبدنا} نوحاً عليه السلام. ومعنى تكرار التكذيب: أنهم كذَّبوا تكذيباً عقب تكذيب، كلما خلا منهم قرن مكذِّب، جاء عقبه قرن آخر مكذِّب مثله، وقيل: كذبت قوم نوح الرسل، {فكذَّبوا عبدنا}؛ لأنه من جملتهم. وفي ذكره عليه السلام بعنوان العبودية مع إضافته لنون العظمة؛ تفخيم له عليه السلام ورفع لمحله، وزيادة تشينع لمكذِّبيه، {وقالوا مجنون} أي: لم يقتصروا على مجرد التكذيب، بل نسبوه للجنون، {وازْدُجِرْ} أي: زجر عن أداء الرسالة؛ بالشتم، وهدّد بالقتل، أو: هو من جملة قولهم، أي: قالوا: هو مجنون وقد ازدجرته الجن، أي: تخبّطته وذهبت بلُبه.
{فدعا ربَّه} حين أيس منهم {أني مغلوب} أي: بأني مغلوب من جهة قومي، بتسليطهم عليّ، فلم يسمعوني، واستحكم اليأس من إجابتهم. قال القشيري: مغلوب بالتسلُّط لا بالحجة، إذ الحجة كانت له. اهـ. وهذا جار فيمن لم يستجب لك، تقول: غلبني. ثم دعى عليهم بقوله: {فانتصرْ}؛ فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وذلك بعد تحقُّق يأسه منهم وعظم إذايتهم. فقد رُوي أن الواحد منهم كان يلقاه فيضربه حتى يغشى عليه، فيقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
{ففتحنا أبوابَ السماء بما منهمرٍ} منصب بكثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوماً، قال يمان: حتى طبق بين السماء والأرض، وقيل: كانوا يطلبون المطر سنين، فأُهلكوا بمطلوبهم. وفتح الأبواب كناية عن كثرة الأمطار، وشدة إنصابها، وقيل: كان في السماء يومئذ أبواب حقيقة.
{وفجَّرنا الأرض عيوناً} وجلعنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض، ومثله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] في إفادة العموم والشمول، {فالتقى الماءُ} أي: مياه السماء ومياه الأرض، وقرئ: {الماءان}، أي: النوعان من الماء السمائي والأرضي. {على أمر قد قُدِر} أي: قُضي في أم الكتاب، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان، أو: قدر أنّ الماءين يكون مقدارهما واحداً من غير تفاوت. قيل: كان ماء السماء بارداً كالثلج، وماء الأرض مثل الحميم، ويقال: إنّ الماء الذي نبع من الأرض نضب، والذي نزل من السماء بَقِيَ حارّاً.
{وحملناه على ذات ألواح} أي: أخشاب عريضة، والمراد: السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام موصوفها كالشرح له، وهو من فصيح الكلام ومن بديعه، {ودُسُرٍ} ومسامير، جمع: دسار، وهو المسمار، فِعال مِن: دسره: إذا دفعه؛ لأنه يدسَر به مَنفذه. {تجري بأعيننا} أي بمرأىً منا، أو: بحفظنا، وهو حال من فاعل {تجري}، أي: تجري محفوظة {جزاءً} مفعول له، أي: فعلنا ذلك جزاءً {لمن كان كُفِرَ} وهو نوح عليه السلام، وجعله مكفوراً؛ لأن النبي نعمة من الله ورحمة، فكان نوح نعمة مكفورة.
وقرأ مجاهد بفتح الكاف، أي: عقاباً لمَن كَفَرَ بالله. قيل: ما نجا من الغرق إلاَّ عُوج بن عُنُق، كان الماء إلى حجزته، وسبب نجاته: أنّ نوحاً احتاج إلى خشب الساج للسفية، فلم يمكنه نقلها، فحمل عُوج تلك الخشب إليه من الشام، فشكر الله له ذلك، ونجّاه من الغرق. قال الثعلبي. قلت: وقد تقدّم إبطاله في سورة العقود، وأنه من وضع الزنادقة. ذكره القسطلاني.
{ولقد تركناها} أي: السفينة، أو: الفعلة، أي: جعلناها {آيةً} يَعتبر بها مَن يقف على خبرها. وعن قتادة: أبقاها الله بأرض الجزيرة، وقيل: على الجُوديَّ، حتى رآها أوائل هذه الأمة. {فهل من مُّدَّكر} من متعظ يتعظ ويعتبر، وأصله: مذتكر، فأبدلت التاء دالاً مهملة، وأدغمت الذال فيها لقرب المخرج، {فكيف كان عذابي ونُذر}؟ استفهام تعظيم وتعجيب، أي: كان عذابي وإنذاري لهم على هيئة هائلة، لا يُحيط بها الوصف، والنُذر: جمع نذير، معنى الإنذار.
{ولقد يسَّرنا القرآنَ للذِكرِ} أي: سهّلناه للادّكار والاتعاظ؛ بأن شحنَّاه بأنواع المواعظ والعِبر، وصرّفنا فيه من الوعد والوعيد ما فيه شفاء وكفاية. {فهل من مُّدّكِرٍ}؟ إنكار ونفي للمتعظ على أبلغ وجه، أي: فهل من متعظ يقبل الاتعاظ، وقيل: ولقد سهّلناه للحفظ، وأعنّا مَن أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليُعان عليه؟ قال القشيري: {ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكر} يسَّر قراءته على ألسنة قوم، وعِلْمَه على قوم، وفهمه على قلوب قوم، وحِفْظه على قلوب قوم، وكلهم أهل القرآن، وكلهم أهل الله وخاصته. ويقال: كاشَفَ الأرواح من قومٍ قبل إدخالها في الأجساد، فهل من مُدكر يذكر العهد الذي جرى لنا معه؟. اهـ.
ويروى: أن كتب أهل الأديان من التوراة في الإنجيل والزبور لا يتلوها أهلها إلا نظراً، ولا يحفظونها ظاهراً كالقرآن، وفي القوت: مما خصَّ اللّهُ به هذه الأمة ثلاثة أشياء: حفظ كتابنا هذا، إلا ما ألهم اللّهُ عزيزاً من التوراة بعد أن كان بختنصّر أحرق جميعها، ومنها: تبقية الإسناد فيهم، يأثره خلف عن سلف، متصلاً إلى نبينا صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يستنسخون الصُحف، كلما خلقت صحيفة جُددت، فكان ذلك أثرة العلم فيهم، والثالثة: أن كان مؤمن من هذه الأمة يُسأل عن علم الإيمان، ويُسمع قوله مع حداثة سنه، ولم يكن مما مضى يسمعون العلم إلا مِن الأحبار والقسيسين والرهبان. وزاد رابعة: وهي ثبات الإيمان في قلوبهم، لا يعتوره شك، ولا يختلجه شرك، مع تقليب الجوارح في المعاصي. وقد قال قوم موسى: {اجعل لَّنَآ إلها} [الأعراف: 138] بعد أن رأوا الآيات العظيمة، من انفلاق البحر وغيره. اهـ. قال أبو السعود: وحمل تيسيره على حفظه لا يساعده المقام. اهـ.
الإشارة: في الآية تسلية لمَن أُوذي من الأولياء، وإجابة الدعاء على الظالم، لهم إن أُذن لهم في ذلك بإلهام أو هاتفٍ، وإلاَّ فالصبر أولى، وجعل القشيري نوحاً إشارة إلى القلب، وقومَه جنود النفس، من الهوى والدنيا وسائر العلائق، فيكون التقدير: كذبت النفسُ وجنودُها القلبَ، فيما يَرِدُ عليه من تجليات الحق، وكشوفات الغيب، وقالوا: إنما هو مجنون فيما يُخبر به، فزجرته، ومنعته من تلك الواردات الإلهية بظلمات شهواتها، فدعا ربه وقال: أني مغلوب في يد النفس وجنودها، فانتصِرْ لي حتى تغيبني عنهم، ففتحنا أبواب سماء الغيب بأمطار الواردات الإلهية القهّارية، لتمحق تلك الظلمات النفسانية، وفجرنا أرض البشرية بعلوم آداب العبودية، فالتقى ماء الواردات، التي هي من حضرة الربوبية، مع ماء علوم العبودية، على أمر قد قُدر أنه ينصر القلب، ويرقيه إلى حضرة القدس، وحملناه على سفينة الجذب والعناية، تجري بحفظنا، جزاء لنعمة القلب التي كفرتْ به النفسُ وجنودُها، ولقد تركنا هذه الفعلة آية يعتبر بها السائرون إلينا، والطالبون لنا، فهل من مدكر؟ فكيف كان عذابي لمَن استولت عليه النفس وجنودها؟ وكيف كان إنذاري من غم الحجاب، وسوء الحساب، ولقد يسَّرنا القرآن للذكر؛ للاتعاظ، فهل من مُدكر، فينهض من غفلته إلى مولاه؟.


يقول الحق جلّ جلاله: {كذبتْ عادٌ} هوداً عليه السلام، {فكيف كان عذابي ونُذُرِ}؟! أي: وإنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، والاستفهام لتوجيه قلوب السامعين للإصغاء إلى ما يُلقى إليهم قبل ذكره؛ لتهويله وتعظيمه، وتعجيبهم من حاله قبل بيانه، كما قبله وما بعده، كأنه قيل: كذبت عاد فهل سمعتم ما حلّ بهم؟ أو: فاسمعوا، فكيف كان عذابي وإنذاري لهم.
ثم بيَّن ما أجمل فقال: {إِنَّا أرسلنا عليهم ريحاً صَرْصَراً} باردة أو: شديدة الصوت، {في يوم نَحْسٍ} شؤم {مستمرٍ} شؤمه عليهم إلى أن أهلكهم، وكان في أربعاء آخر شوال، {تَنزِعُ الناسَ} أي: تقلعهم، وجاء بالظاهر مكان المضمر؛ ليشمل ذكورَهم وإناثهم، صغيرهم وكبيرهم. رُوي: أنهم كانوا يتداخلون الشِّعاب، ويحفرون الحفر، ويندسُّون فيها، ويُمسك بعضهم ببعض؛ فتزعجهم الريح، وتَصرعُهم موتى.
قال ابن إسحاق: ولمّا هاجت عليهم الريح، قام سبعةُ نفرٍ من عاد فأولجوا العيال في شعب بين جبلَين، ثم اصطفُّوا على باب الشعب، ليردُّوا الريحَ عنهم، فجعلت الريحُ تجعفهم رجلاً رجلاً. اهـ. ثم صاروا بعد موتهم {كأنهم أعجازُ نخل مُنقَعرٍ} أي: أصول نخل منقلع من مغارسه، وشُبِّهوا بأعجاز النخلة، وهي أصولها التي قطعت روؤسها؛ لأنّ الريح كانت تقطع رؤوسهم، فتبقى أجساداً بلا رؤوس، فيتساقطون على الأرض أمواتاً، وهم جثث طوال. وتذكير صفة النخل بالنظر إلى اللفظ، كما أن تأنيثه في قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحافة: 7] بالنظر للمعنى. {فكيف كان عذابي ونُذُر}؟! تهويل وتعجيب من أمرهما بعد بيانهما، فليس فيها شائبة تكرار، وما قيل: من أن الأول لِما حاق بهم في الدنيا، والثاني لِما يحيق بهم في الآخرة، يرده ترتيب الثاني على العذاب الدنيوي.
{ولقد يَسَّرنا القرآنَ للذكرفهل من مُّدَّكِرٍ}؟! وفي تكريره بعد كل قصة؛ تنبيه على أن إيراد قصص الأمم إنما هو للوعظ والتذكار، وللانزجار عن مثل فعلهم، لا لمجرد السماع والتلذُّذ بأخبارهم، كما هي عادة القصاص.
الإشارة: من شأن النفوس العاتية المُتجبرة العادية؛ تكذيب أهل الخصوصية كيفهما كانوا، ولا ترضى بحط رأسها لمَن يدعوها إلى ربها، فيُرسل اللّهُ عليهم ريحَ الهوى والخذلان، فتصرعهم في محل الذل والهوان، وتتركهم عبيداً لنفوسهم الخسيسة، وللدنيا الدنية، فكيف كان عذابي هؤلاء وإنذاري لهم؟! ولقد يسّرنا القرآن للذكر، وبيَّنَّا فيه ما فعلنا بأهل التكبُّر والعناد من الإهانة والطرد والإبعاد، فهل مِن مدكر، يتيقّظ مِن سنة غفلته، ويرحل من دنياه لآخرته، ومن نفسه إلى ربه؟

1 | 2 | 3